قصّة سِنْسِنَاتُسْ
كان رجل اسمه سِنْسَناتُسْ يعيش في قرية ليست بعيدة عن مدينة روما، وكان غنيًّا ذائع الصيت، لا يعدله أحد في البلاد؛ لكنّ سوء طالعه ساقه إلى ضياع ثروته، وصار فقيرًا حتّى اضطرّ أن يشتغل في مزرعته بيديه كأنّه عامل بسيط، غير أنّ ذلك لم يُغضبه، ولم يسبّب له احتقار الناس الذين اعتادوا أن ينظروا إلى الفلّاح نظرة احترام وأن يعتبروا الفلاحة مهنةً شريفة مقدّسة.
كان سِنْسَناتُسْ عاقلًا وحكيمًا وعادلًا حتّى أنّه نال ثقة الناس أجمع، وكانوا يتّخذونه ناصحًا لهم يستشيرونه في شؤونهم الصعبة وكانوا إذا استعصى على أحدهم أمر أو وقعوا في ضائقة ما يقولون:
هوذا سِنْسَناتُسْ اذهب إليه وهو يساعدك وينقذك من ورطتك.
كان يعيش في ذلك الزمان قريبًا من روما، قبيلة متوحّشة مساكنها الجبال الوعرة، وكانت متعادية مع الشعب الرومانيّ. فاتّفقت تلك القبيلة مع قبيلة أخرى، عُرِف رجالها بالشجاعة والفروسيَّة، على محاربة روما، وبدأوا بتنفيذ خطّتهم واتّجهوا نحو المدينة المقصودة، يعيثون في الأرض فسادًا، لا يرون شيئًا إلّا سرقوه، ولا يقع تحت أيديهم أحد إلّا قتلوه، وعزموا على دكّ أسوار روما، وحرق مبانيها، وقتل رجالها وسبي نسائها وأولادها، وجعلهم عبيدًا أرقّاء.
كان الرومانيّون ذوي فخرٍ، فلم يفطنوا في بادىء الأمر، أنّ هناك خطرًا يحيق بهم، أو أنّ أحدًا يجرؤ على مهاجمتهم في عقر دورهم، وكان كلّ منهم جنديًّا، وكان جيشهم المرسل لمحاربة الأعداء واللصوص أشجع الجيوش وأحيلها.
لم يبقَ في المدينة مع النساء والأطفال سوى الآباء ذوي اللحى البيضاء كما كانوا يسمّونهم، والذين سنّوا قوانين المدينة، وفئة صغيرة من الرجال المنتدبين لحراسة الأسوار.
كان كلّ إنسان يفتكر أنّه ليس من الصعب التغلّب على العدو وطرده وإرجاعه إلى الجبال التي خرج منها.
في ذات صباح رأى الناس خمسة من الفرسان راكبين الجياد المطّهمة، نازلين من الجبل، يطلقون لخيلهم العنان، وهم مُغطّون بالغبار والدماء، وعندما وصلوا إلى باب المدينة عرفهم الحرّاس، وسألوهم عن حالهم وعمَّا حلَّ بالجيش الرومانيّ إلّا أنّهم لم يتلقّوا جوابًا.
تابع الفرسان سيرهم الحثيث، ودخلوا المدينة مجتازين شوارعها الهادئة، فركض جميع السكّان خلفهم تحدوهم رغبة الاطِّلاع على جليَّة الأمر. في ذلك العهد لم تكن روما مدينة كبيرة، فلم يتأخّر الفرسان حتّى وصلوا إلى الساحة العامّة حيث كان بانتظارهم الآباء ذوو اللحى البيضاء، فقفز الفرسان عن جيادهم وحكوا قصّتهم وقالوا: في نهار أمس بينما جيشنا يجتاز واديًا ضيّقًا بين جبلين عاليين شديدي الانحدار، باغتنا ألفٌ من رجال الأعداء المتوحّشين المختبئين خلف الصخور، وهجموا علينا من خلفنا ومن فوقنا، وسدّوا علينا الطريق، الذي كان قليل الاتّساع حتّى لم يكن باستطاعتنا القتال؛ وحاولنا التراجع والفرار فوجدنا الممرّ خلفنا مسدودًا، ورأينا الأعداء الجبليّين القساة أمامنا وخلفنا، والكامنين منهم بين الصخور في منحدرات الجبل يرموننا بالحجارة من علٍ، أي أنّهم أوقعونا في كمين مدبّر، فركب عشرة منّا خيولهم، وهمزوها بسرعة، فسقط خمسة بنبال العدوّ ولم ينجُ إلّا خمسة ترونهم أمامكم.
يا شيوخ المدينة الحكماء! قد أتينا مستنجدين بكم لترسلوا للجبال من يُنقذ جيشنا، وإلّا ذُبحوا عن بكرة أبيهم، واحتُلّت مدينتنا هذه عنوةً. فأخذ الشيوخ يفكّرون بطريقة تنقذ شرفهم، فعَسُرَ عليهم ذلك، إذ لم يبقَ في المدينة سوى الصبيان والحرّاس، وصار كلّ يهزّ رأسه لخطورة الموقف، وظهروا كأنّ اليأس قد استولى عليهم. فقام حينئذ من بين الجمهور رجل وقال: أرسلوا من يأتيكم بسِنْسَناتُسْ فهو سينجدنا ويُنقذنا من هذا المأزق الحرج.
ذهب الرسُل على جناح السرعة إلى سِنْسَناتُسْ، فوجدوه في حقله يحرث، فوَقف وحيَّاهم بلطف وسكت منتظرًا ما سيبدو منهم.
فقالوا له: البس رداءَك واصغِ إلى كلام الشعب الرومانيّ.
فأخذه العجب من ذلك الكلام، وسألهم قائلًا:
-هل الأمور تجري في مجراها الطبيعيّ في روما؟
ثمّ نادى امرأته كي تناوله الرداء. فناوَلَتْهُ إيّاه فمسَح الغبار عن يديه وذراعيه، ووضعه على كتفيه وبعدئذ أصغى إلى مقال الرسل.
بلَّغوه كيف أنّ الجيش المؤلّف من خيرة الأشراف في روما، وقع في ذلك الكمين الجبليّ، وأنّ المدينة نفسها معرَّضة لخطر عظيم، ثمّ أضافوا قائلين: إنّ شعب روما قد قلَّدك حاكمًا على المدينة، وفوّضك أن تعمل كلّ ما تراه مناسبًا للتخلّص من هذا الشرّ؛ وإنّ الشيوخَ يأمرونك أن تأتي للحال، وتتوجّه لمحاربة الأعداء، رجال الجبال المتوحّشين.
وهكذا ترك سِنْسَناتُسْ محراثه منتصبًا في مكانه، وهرع إلى المدينة؛ وعند مروره في شوارعها كان ينثر الأوامر ذات اليمين وذات الشمال بما يجب أن يُعمل. فخاف بعض السكّان من خطأ يقع فيه ذلك الرجل الذي نال السلطة المطلقة في أي عمل يريده، غير أنّ ذلك الخوف تبدَّد وحلّتَ محلّه الثقة.
سلَّح الحاكم الجديد الحرس والصبيان وخرج على رأسهم ليحارب أولئك الجبليين المتوحّشين، ويُنقذ الجيش الرومانيّ من الورطة التي وقع فيها.
لم تمضِ بضعة أيام، حتّى أخذت بشائر الفرح تتوارد إلى روما، والأخبار السّارّة تنتشر مُذيعة صيت سِنْسَناتُسْ الحسن، فقد قهر الأعداء الجبليين، وكبّدهم خسائر فادحة، وأعادهم إلى ملاجئهم في صياصي الجبال.
قفل الجيش الرومانيّ راجعًا بصحبه الحرس والصبيان رافعين الأعلام الخفّاقة، مردّدين هتافات النصر التي تشقّ عنان السماء؛ يتقدّمهم الرجل سِنْسَناتُسْ ذلك الذي أنقذ روما.
كان بوسع سِنْسَناتُسْ أن يتوّج نفسه ملكًا بعدما أبدى من البطولة ما أبدى، فإنّ كلمته صارت قانونًا، ولم يبقَ، من رجل يستطيع أن يرفع إصبعًا ضدَّه، ولكن سِنْسَناتُسْ لم يفعل شيئًا من هذا، فقبْل أن يتنفّس الشعب ويكافئه بالشكر على أعماله، أسلم قيادة المدينة والحكم إلى الآباء الرومانيين ذوي اللحى البيضاء، وقفلَ راجعًا إلى مزرعته ومحراثه، ولم يتسلَّم زمام الحكم سوى ستّين يومًا.
هذه أمثولة تفيدنا نحن معشر الشرقيين، أنّ أكثرنا يضحّي بكلّ شيء في سبيل منصب زائل.
يوسف س. نويهض